لم يكن الأدب في جميع مراحله المتعاقبة زخرفا أو بديعا أو سفسطة لغوية أو محسنات بلاغية أو كلاما لا يدل سوى على نفسه. لم يكن الأدب قط بوقا للدعاية أو وسيطا بين عالمين أو ناقلا أمينا لرسالة أو مضمون سابق عليه. لم يكن الأدب مطية للتنفيس عن الذات أو مجالا لتفريغ "المخزون" الذاتي أو النفسي سعيا وراء راحة الأديب ورفعا لكربه ! لم يكن الأدب صورة أو نسخة مصورة لمجتمع أو قبيلة أو شعب أو حزب أو دولة أو أمة...لم يكن الأدب لسانا ناطقا أو تعبيرا "معبرا" أو أي شيء يخطر على البال خارج الأدب.
ما سبق أن نفيته عن الأدب وأبعدت عنه تهمته (وغيره كثير) يروم الدفاع عن فكرة أن الأدب يستمد مشروعيته من الأدب وليس من شيء آخر غيره. هذا هو الدرس الذي ما فتئ كبار المنظرين والنقاد يرددونه أو يشرحونه للمتخصصين قبل المهتمين أو القراء العاديين.
فالأدب حجة الأدب، ولا يحتاج إلى دليل غيره كما سبق لشارل دانتزيغ أن قال، ولا يعني هذا أننا أمام طبعة مزيدة ومنقحة لمدرسة الفن من أجل الفن، وإنما نحن أمام أطروحة جديدة تقول باستقلالية الأدب عن العوالم المحيطة به أو المتداخلة معه، على اعتبار أنه يخاطبها ويستعملها... لكنها لا يمكن أن تهيمن عليه أو توظفه لصالحها. وينطبق ذلك على اللغة والذات والمجتمع والإيديولوجيا والثقافة وغيرها.
لا يكفي استعمال هذه الخطابات، وإنما ينبغي فتح أفق جديد داخل خريطة الأدب واكتشاف طرق جديدة لم يسلكها أديب من قبل. هنا تكمن عبقرية كبار الأدباء على مدى تاريخ البشرية.
و في هذا السياق، ثمة اتجاه يحرص على الربط السُّري بن الأدب والتاريخ والجغرافيا، ويرى أنه لا مندوحة من وصلهم والإيمان المطلق بأواصر القربى بينهم. الحق أن هذه الفكرة ليست صحيحة أو خاطئة في حد ذاتها، ما دام الأدب (المكتوب أو الشفاهي) "يستخدم" اللغة التي هي من تربة الجغرافيا و"إفرازات" التاريخ. كما أن الأديب كائن حين يأكل ويشرب وينام ويمشي في الأسواق.
أين هي المشكلة إذن ؟
إن ترديد فكرة بسيطة وشبه بديهية لا يحقق إنجازا ولا يضيف كشفا أو ينير طريقا، لهذا أعتقد أنه ينبغي الإنتقال إلى مستوى أعلى يجعل الأدب فنا مستقلا له تاريخه وجغرافيته الخاصة (من دون أن ننفي أن أي أدب هو نتاج تربته الجغرافية ومرحلته التاريخية). وهذا معناه أنه ينبغي النظر للأدب نظرة مكبرة عالية لا نظرة تحققية تصعد وتنزل بينه وبين الواقع التاريخي والحقائق الجغرافية للأديب. ماذا يهم القارئ أن يعرف بأن الأديب الفلاني "يعكس" في أدبه بيئته أو مجتمعه أو جهته؟
ما يهم القارئ المهتم هو الإضافات الجديدة التي جاء بها أدب أديب معين، والمناطق الجديدة التي اكتشفها، وجعلت تفاعله معه تفاعلا إيجابيا. ذلك أن "المتعة" التي يشعر بها القارئ، أو الكشف الذي يضيئه الناقد أو الدارس ليس مردها إلى التفاعل مع الواقع الإجتماعي أو الظروف التاريخية، وإنما إلى أن الأديب استطاع في أدبه سلك طريق جديدة أو بصم توقيعه المختلف عمن سبقه.
هذا ما يجعل كبار الأدباء يحوزون مكانة كبيرة في نفوس القراء وتردد أسماءهم على مدى التاريخ، من دون حتى أن نعرف شيئا عن واقعهم وتاريخهم وجغرافيتهم. إنهم أضاءوا منطقة مظلمة في الوجود الإنساني و عانقوا الشرط الإنساني الكلي باختلاف الأعراق أو الجنسيات أو الألسن أو التضاريس الجغرافية أو الظروف التاريخية.